السياسة الداخلية قبل الهجرة
(۱) التلطف في بدء الدعوة
تتعلق السياسة الإسلامية بأمور الحكم الداخلي والخارجي، ويتعلق الدين بالعبادات والمعاملات بين الأفراد، وللذين مع هذا حكمه على السياسة، ليرشدها إلى السليل القويم، ويصرفها على الطرق الملتوية التي تسلكها السياسة الأئمة
وقد اعتنق الإسلام بالسياسة من أول ظهور لها، وفرض هذه السياسة جنبًا إلى جنب، وفرضها بحكمتها، وعمل على نجاحها بكل جرأة، وتسلك بها السبل التي تبعدها عن وسائل القوة ما، لتحفظ دماء أتباعها، وتجذب بالحكمة أعداءها إلى هناك، ولا تنفرهم باستعمال وسائل العنف، فسلك في أول ظهور لها وسيلة التلطف، ولم يجد فيها بسنة التدرج، وعملت في هذا بما تقضى به فلسفة النشوء والارتقاء قبل أن يتبنى داروين الإنجليزي في عصرنا، لأن الله تعالى لم يرد أن يأخذ الناس فيها بما كان يأخذهم إلى الشرائع السابقة، من آيات العذاب التي كانت تقضى عليهم، ولا يمهلون فيها كما أمهلت أمة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يجاوزون الحد في الكفر
والطغيان، ولم يكونوا حتى يرجى منهم الهداية أو الإيمان، فأخذوا بعض بالطوفان كقوم نوح عليه السلام، وأخذوا بعض بالريح العاتية كقوم عليه السلام، وأخذوا بعض بالرجفة كقوم صالح عليه السلام، إلى غير هذا مما ذهب إلى الأمم البائدة، فذهبت إلى أعمالهم، ولم يبق بعدهم إلا حديث عذابهم.
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بمثل تلك الآيات، فلم يجبهم إليها، لأن الله يريد أن يأخذهم برحمته ولطفه، ويهلهم إلى أن يؤمنوا بهذه الدعوة، وقد أراد بقاءها من بين الشرائع التي أرسلها الرسل، فلتبق أمتها لتؤمن بها، وتؤدى رسالتها إلى الناس كافة، وفي هذا يقول الله تعالى في الآيتين. من سورة الأنفال (وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو اثتنا بعذاب أليم، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فلما وجدهم في هذا كشأن الأمم السابقة، ولهذا أمهلوا ولم يؤخذوا بآيات العذاب كما أخذ غيرهم. 33 ، 32 –
وكان من سياسة التلطف في بدء هذه الدعوة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بها رؤساء قومه، فلم يقصدهم بها في أول أمره، كما قصد موسى فرعون في أول أمره، لأن هذا يثير عداوتهم لها في أول أمرها، ويجعلهم مفاجأة لا تفكر في جذب أحد إليها،
